عيسی هبولة
خلُص الناقد “نور الدين حنيف” المعروف ب “أبو شامة” في بحث حول حل إشكالية موضوع الزجل قاٸلا:
“لنطرح على أنفسنا الأسئلة التالية: كيف يكون الزجل زجلاً مُتْرعا بالشِّعرِيّة وَ لا يكونُ كلاما ينتمي إلى الخطاب اليومي ؟ وما حدود تسيّبِه خارج شرط الموسيقى ؟ وهل ما يقدّمه الزجالون اليوم هو زجلٌ بالمفهوم الموضوعي لطبيعة هذا الجنس الأدبي النازح من الذاكرة و من عمق الوجدان المغربي و من شعبية هذا الوجدان؟ وهل نصنّف زجّالاً كلَّ ناظمٍ نسخ صورته من آلهة الزجل الذين سبقوه و قالوا لا تُسبّح إلا بحمدنا نحن ؟ وغيرَنا فاترُكْ ؟ وهل ما أتى به المتأخرون الذين نسمُهم بالحداثيين هو البدعةُ المرفوضة و الفِرْيةُ المنبوذة ؟.
للإجابة ، نُدرِجُ مثالاً زجلياً لزجّالٍ مشهورٍ مثل نارٍ على علَم و نستلهمه في مقاربة هذا الطرح الشائك .
قال هذا الزجّالُ و القول مثبت في الديوان ، ارجعوا إليه إن حمِدتمُ لهُ شِعرا :
( و انا جالس فْ راس الدربْ
قال لي راسي سوّل راسك
واش انتَ أنا و لا أنا انت
و علاش احْنا ما انتشابْهوشْ
وديما احْنا مخاصمين )
- المرجع : ديوان الشاعر الزجال الذي قامت له الدنيا و قعدتْ .
أولاً ، ماذا نعني بالظاهرة الشعرية ؟ وما الذي يمكننا الإجابة عنْه لتحديد الفكرة بأكبر قدر ممكن من الموضوعية المنصفة بحيث لا نتحامل و لا نجامل ؟
أنا الآن أبحث في الشاهدِ أعلاهُ عن شيءٍ ممّا يسَمّونهُ الإدهاش حتى أكون أمينا مع ذاتي و أنا أضع المقول في الميزان، لم أجد من هذا شيئا .
و أنا الآن أبحث عن شيء يسمّونه الموسيقى حتى أصل بين هذا المقول و بين فكرة انتمائه إلى الزجل من باب المبيّت أو السوسي أو مكسور الجناح أو الرباعي أو ما جرى في مجال الأوزان، و لم أجد من هذا شيئا .
و أنا الآن أبحث عمّا يسمّونه انزياحا أو بلاغة أو هروبا بالأساليب من بداهة العبارة التواصليه بين متكلمين في الشارع إلى خطاب زجليٍّ يؤسس ذاته على اختيار واعٍ بجمالية اللهجة داخل نسق لغوي عامي و دارج يمارس الوصل مع الوجدان الشعبي و في نفس الآن يمارس القطيعة بحيث لا يني الزجل المدهش يطلب من الذائقة العاميّة أن ترقى إليه عبر اللهجة ذاتها، و هنا أيضا لم أجد شيئا .
و أنا الآن أبحث عن الموضوع، فوجدته حاضرا بعمقٍ فلسفي عبر مساءلة الذات في تناقضها، فحمدتُ الله أنني ظفرتُ بشيء ممّا ابحث عنه و قررت أن أرفع كلامَ صاحبنا إلى مراتب الانتماء إلى فن الزجل أي إلى فن الشِّعر .
لكنّها فرحة لم تكتمل ، إذ قلتُ في نفسي : هبْ أيها الباحث عن شكلٍ لهذا الكلام أن هذا الكلام قاله متحدّث إلى آخر في إطار الخطاب اليومي و هما يقْهَيانِ في مجلس أو يسافران في قطار … ما الشرط الذي يحوّل هذا الكلام من البداهة إلى الشعر ؟.
هل هو شرط الموضوع ؟.
أظن أن هذا غير كافٍ لأن مثل هذا الكلام لا يرقى الى السؤال الفلسفي مادام قد صيغ باللهجة ، و اللهجة ليست وعاء عالماً قادرا على حمولة فلسفية في هذا الحجم . يبقى أنه كلام بسيط في سياقٍ ، و لو كان عميقاً في سياقٍ آخر ، لأن الموضوع ليس محدّداً للشعر و للشّعرية ، و في أبي العلاء المعرّي خير دليل ، لأنه جمع بين قوة النظم و جمالية الصوغ و بين المتضمّن الفلسفي . و لو أن المقارنة بعيدة ، لأن اللغة هنا حاسمة جدّا .
ثم إنّي أقول : إن الزجل خطاب موجّه إلى الوجدان الشعبي و بالتالي ينبغي تحريك هذا الوجدان بطرق تشبه هذا المخاطب المتعدد بين مثقفين و غير مثقفين عبر الضرب على أوتار الإيقاعات و التخريجات البيانية المندمغة في عمق النسغ التواصلي ، و البلاغات و الانزياحات و التوظيفات الذكية لطبيعة اللهجة المحلية و القدرة على انتقاء المعجم و أخيرا اختيار الموضوع كيفما كان اجتماعيا أو نفسيا أو سياسيا أو فلسفيا أو غير ذلك …
ناهيكَ عن الشرط الفيصل في هذا الإشكال ، و الذي أطرحه في صيغة السؤال التالي : ما الذي يجعل زجليةً قابلة أنْ تحفظها الآذان و تسير بها الركبان و تتداولها الألسن و تتوارثها الأجيال ؟ إن القصيدة الزجلية بيانٌ قبل أن تكون برهانا ، و طوبى لمن جمع بينهما في ميزان … و كل المواضيع كيفما كان وجهها لا يتمّ حفظها في الذاكرة ، و لا أقصد بالذاكرة هنا آلة الاستظهار و الاسترجاع و إنما أقصد الذاكرة التاريخ .
و قد يقول قائل إنّ آلية الكتابة و التدوين كافية لحفظ النصوص الزجلية المنتمية إلى هذا القبيل ، حتّى و لو كانت نصوصا مغرقة في الموضوع و مهمِّشة لباقي المكونات الضّامنة لشعْرِيّة النصوص . أقول : نعم ، شريطة أن ندوّنَ كلّ كلام الناس الحامل للبعد الفلسفي أو التأملي ، أو لبعض هذا البعد … و دون استثناء . عند ذلك يصبح كلّ الناس زجّالين” .