إبراهيم اوقلي/ مشاهد بريس
بعد الجدل الكبير الذي لحق مشروع قانون المسطرة المدنية، والأشكال النضالية التي جسدها رجال ونساء القانون أصحاب البدلة السوداء أمام البرلمان تنديدا واحتجاجا على مضمون مشروع القانون خاصة في بعض فصوله حيث اعتبروه ضد مهنة المحاماة يبخس أدوارهم ويمس بحقوقهم .
في ذات السياق لم يسلم كذللك قانون المسطرة الجنائية من الانتقادات حيث قام النقيب الدكتور علال البصراوي بقراءة نقدية شاملة لمقتضيات فصوله.
حيت أفاد بأن تعديله أو وضع مسطرة جديدة أمر بالغ التعقيد في كل البلدان وذلك لسببين على الأقل:
ـ الأول يعود لطبيعة المسطرة الجنائية نفسها وصعوبة الدور الذي تلعبه في المحاكمة: فهي أداة الدولة لإنزال العقاب على المتهمين، وفي نفس الوقت وسيلة هؤلاء المتهمين لضمان المحاكمة العادلة.
ـ والسبب الثاني يعود لكون المسطرة الجنائية أحد أهم عناصر السياسة الجنائية التي تهدف إلى التصدي للجريمة، وهذه مهمة صعبة ومعقدة تشكلت حولها مدارس فكرية وثيارات ومذاهب، وكل دولة تختار ما يناسب سياستها العامة ويتماشى مع تطورها ووضعها الحقوقي والسياسي. لذلك فإن تعديل المسطرة الجنائية، ووضع مسطرة جديدة ليست مسألة تقنية تتم لسد بعض الثغرات بهدف اضافة مقتضى أو تعديل آخر.
وباستحضار هذه المعطيات نطرح السؤال حول مشروع القانون رقم 23-03 بتغيير وتتميم القانون رقم 22.01 المتعلق بالمسطرة الجنائية، والذي هم مراجعة ازيد من 420 مادة (تغيير وتتميم 286 مادة، إضافة 106 مادة ، نسخ وتعويض 27 مادة، نسخ 5 مواد)
وهو ما جعله يتساءل حول الغاية من هذا التعديل؟ وهل هذا التعديل سيؤدي إلى حل معضلة العدالة الجنائية بعناوينها المعروفة: ( ارتفاع نسبة الجريمة، ازمة الاعتقال الاحتياطي، اكتظاظ السجون، ارتفاع نسبة العود…) ؟
وهل هذا التعديل والأصل المطلوب تعديله يسايران من حيث الفلسفة العامة ومن حيث التفاصيل الإجرائية الوضع السياسي والحقوقي للمغرب اليوم؟
كما أشار أن في إطار البحث عن الأجوبة لابد من الاشارة إلى ملاحظتين بخصوص المسطرة الجنائية الحالية والمراد تعديلها مع الحفاظ على فلسفتها العامة.
الأولى: ان هذه المسطرة السارية منذ 1959 ( ادخلت عليها تعديلات جزئية عدة مرات ) هي النص المطبق والذي في ظله وبواسطته عرفت العدالة الجنائية أزمتها التي تعيشها منذ سنوات.
والملاحظة الثانية: هي كون هذه المسطرة الجنائية المحتفظ بها مع تعديلها، هي المسطرة التي اعتمدت في محاكمات سنوات الرصاص، وانها هي التي سهلت الانتهاكات الجسيمة لحقوق الانسان التي عرفتها المرحلة. ولذلك كان من التوصيات الاساسية لهيئة الانصاف والمصالحة لطي صفحة الماضي: تعديل هذه النصوص التي سهلت الانتهاكات المذكورة وتسببت في آلام كثيرة بذل المغرب مجهودا كبيرا لطي صفحتها.
ان طبيعة المسطرة الجنائية المعمول بها في المغرب منذ 1959 وفلسفتها العامة تنتمي إلى صنف المساطر الجنائية التفتيشية التي لا تعتمد المساواة في الاسلحة القانونية والأوضاع بين طرفي الدعوى العمومية: النيابة العامة وخلفها أجهزة التفتيش والتنقيب من جهة، والمتهم مجردا من اية وسيلة للدفاع – إلا محاميه إذا تمكن من أن يكون له محام- من جهة أخرى. إن
مما اعتبر أن هذا الوضع يجعل طرفي الدعوى وهما أمام هيئة المحكمة في وضعية مختلة: طرف يتوفر على كل الوسائل ، وهو الذي يملك القوة والسلطة ويوجه التهمة، وطرف لا يتوفر على اية
وسيلة. مع ان المسطرة الجنائية أصلا هي وسيلة المتهم للدفاع عن نفسه، والقانون الجنائي هو وسيلة النيابة العامة في مواجهة المتهم.
ان هذا الوضع يجعل المحاكمة تفقد أهم خاصياتها وهي خاصية المساواة أمام هيئة الحكم، وصولا إلى الهدف الذي هو المحاكمة العادلة كغاية انسانية وحقوقية ودستورية ( وهي من المقتضيات النادرة التي تكررت مرتين في نفس الدستور: الفصل 23 » قرينة البراءة والحق في محاكمة عادلة مضمونان « والفصل 120 »لكل شخص الحق في محاكمة عادلة .( «
والمحاكمة لا تكون عادلة إلا إذا تساوى طرفاها أمام المحكمة.
لهذا الاعتبار الأساسي، المتعلق بجوهر المحاكمة، والتي تعتبر المسطرة الجنائية أداتها الرئيسية، فإن كل الأنظمة الديمقراطية في العالم تخلت عن هذا الصنف من المساطر التفتيشية التنقيبية وتحولت إلى صنف المسطرة الجنائية الاتهامية التي تضمن أكثر شروط المساواة بين الأطراف أمام القضاء. وبالتالي تشكل ضمانه للمحاكمة العادلة.
لكن المشروع الحالي للمسطرة الجنائية يصر على تبني النهج التفتيشي.
ونقف فيما يلي على بعض الامثلة من هذا المشروع للتدليل على أنه لن يساهم في المحاكمة العادلة ولا في حل معضلات المحاكمة الزجرية.
التي ذكرنا بعض عناصرها.
- الحراسة النظرية:
رغم ان المشروع نص في المادة 1-66 ان الحراسة النظرية تدبير استثنائي، إلا أنه أورد على الأقل سبعة اسباب تبرر اللجوء إليه، وفي حقيقة الأمر كل سبب منها كاف، ومتوفر دائما ويصلح في كل الحالات سببا للجوء إلى الحراسة النظرية مثلا:
الحفاظ على الادلة والحيلولة دون تغيير معالم الجريمة
القيام بالأبحاث والتحريات التي تستلزم حضور أو مشاركة المشتبه فيه
وضع المشتبه فيه رهن اشارة العدالة والحيلولة دون فراره.
حماية المشتبه فيه
الحيلولة دون ممارسة اي ضغط على الشهود أو الضحايا أو أسرهم أو أقاربهم،
فكلها اسباب مجتمعة أو متفرقة، وأي سبب منها صالح للاعتماد، ويمكن القول أنه متوفر دائما.
وبالتالي فالحراسة النظرية مع هذه الاسباب ليست تدبيرا استثنائيا بل هو الأصل. - الاعتقال الاحتياطي:
في وضع شبيه بالحراسة النظرية اعلاه، نص المشروع في المادة 1-175 أنه لا يمكن الأمر بالاعتقال الاحتياطي إلا إذا ظهر أن هذا التدبير ضروري لأحد الأسباب التي ذكرها، وحددها في تسعة. وبالتمعن في هذه الأسباب يتضح انها يمكن اعتبارها دائما موجودة كلها أو بعضها، أي أنه يوجد دائما سبب أو أكتر للاعتقال الاحتياطي. ولنتمعن في هذه الاسباب :
الخشية من عرقلة سير اجراءات التحقيق
وضع حد للجريمة أو منع تكرارها
الحفاظ على الأدلة والحيلولة دون تغيير معالم الجريمة
وضع المتهم رهن اشارة العدالة والحيلولة دون فراره
الحيلولة دون ممارسة اي ضغط على الشهود أو الضحايا أو اسرهم أو أقاربهم
حماية المتهم
منع المتهم من التواطؤ مع الأشخاص المساهمين أو المشاركين في الجريمة.
انها أسباب دائما متوفرة في كل النوازل، بل انها جامعة لكل ما يمكن تصوره كأسباب تم وضعها، وبالتالي يمكن دائما الأمر باعتقال أي متهم احتياطيا.
وهذا يعني أن المشروع لم يأت بقيود من شأنها أن تخفف من أزمة الاعتقال الاحتياطي التي أصبحت مستفحلة والتي هي موضوع نقاشات وأراء كثيرة. - قرار الاعتقال :
من خاصيات المسطرة الجنائية التفتيشية التي يأخذ بها المغرب أن القرارات المهمة، والتي تهم المتهم وحريته وحياته الخاصة هي بيد النيابة العامة التي تأمر بوضع الشخص في الحراسة النظرية أو تأمر بتفتيش منزله وغيرها من القرارات المهمة، في حين أنه في المسطرة الاتهامية، القرارات الخطيرة المذكورة تكون بيد القضاء وليس بيد النيابة العامة.
إن النيابة العامة خصم للمتهم وبالتالي عليها أن تلتمس من القضاء الاعتقال أو السماح لها بالتفتيش، وليس الأمر به مباشرة. - القوة الثبوتية لمحاضر الضابطة القضائية:
تثير القوة الثبوتية لمحاضر الضابطة القضائية في المشروع كما هو الحال في المسطرة المعمول بها عدة اشكالات اهمها: - حافظ المشروع في المادة 290 على ما كانت تنص عليه من كون المحاضر والتقارير التي يحررها ضباط الشرطة القضائية في شأن التثبت من الجنح والمخالفات يوثق بمضمونها إلى أن يثبت العكس بأية وسيلة من وسائل الاثبات.
قد يبدو نظريا أنه يمكن اثبات عكس ما جاء في محضر الضابطة القضائية، لكن الحقيقة هي بخلاف ذلك: إذ كيف يمكن اثبات عكس ما جاء في المحضر؟ انه اثبات شبه مستحيل، لأن الأمر يكتسي صبغة السرية في مرحلة البحث التمهيدي حيث تحرر المحاضر في سرية ومع المتهم على انفراد، وبالتالي ليست هناك أية امكانية لإثبات العكس، بل حتى الشهود تم استبعادهم وقالت بعض الاجتهادات أن وسيلة اثبات عكس ما جاء في المحضر يجب أن تكون بوسيلة من نفس قوة ودرجة المحضر نفسه. وبالتالي تم استبعاد شهادة الشهود. - ما دامت المحاضر تحررها نفس الجهة وهي الضابطة القضائية وفي نفس الظروف، فلماذا يوثق فيها بشكل كلي في الجنح والمخالفات ولا يوثق فيها في الجنايات ولا تعتبر إلا مجرد بيان؟
- نصت المادة 3-66 على انجاز تسجيل سمعي بصري للمشتبه فيه الموضوع في الحراسة النظرية اثناء قراءة تصريحاته المضمنة في المحضر وتوقيعه أو ابصامه أو رفضه حين يتعلق الأمر بالجنايات والجنح المعاقب عليها بخمس سنوات فأكثر.
فلماذا لا يوثق في الاجراء في هذه الجرائم ويستلزم الأمر انجاز تسجيل سمعي بصري ويوثق فيه في الجرائم الأخرى مع ان الامر يتعلق بنفس الضابطة؟
- ولماذا يحضر المحامي حين الاستماع للمشتبه فيه إذا كان شخصا في وضعية اعاقة ولا يحضر في الحالات الاخرى؟ علما بأن دور المحامي في المؤازرة هو علمي وقانوني وليس جسدي.
- المحكمة تعتمد محضر الضابطة القضائية كحجة على المتهم ويوثق بما جاء فيه بالأولوية حتى على محضر الاستماع الذي تنجزه النيابة العامة حين تقديم المشتبه فيه أمامها، ويوثق بالأول بالأولوية على الثاني رغم ان الضابطة القضائية مرؤوسة من النيابة العامة. كيف يوثق بمحضر المرؤوس على محضر الرئيس؟
وقد خلص في آخر قراءته النقدية إلى أن ما سبق ذكره من امثلة تبين ان مضمون كثير من الاجراءات مخالف لما توحي به للوهلة الاولى. ومن جهة اخرى ، فإن النص على حق معين لا يعني بالضرورة أنه سيطبق متلما نص عليه. ومثال ذلك ما تنص عليه المادة 66 من المسطرة الجنائية (2-66 من المشروع) من انه بإمكان الشخص الموضوع في الحراسة النظرية الاتصال بمحام. لكن عادة ما تأتي المحاضر متضمنة لعبارة » تنازل عن مقتضيات المادة 66 «
ما هي الضمانات إذن؟
في مسطرة جنائية تفتيشية لا توجد أية ضمانات في مثل هذه الحالات.
لذلك فإن التعديلات المدخلة على قانون المسطرة الجنائية من خلال هذا المشروع لا تحل معضلة العدالة الزجرية في الجوانب التي ذكرناها، وجوانب اخرى. وإن الأمر لا يحتاج إلى تعديلات تقنية على المواد، بل يحتاج تعديل فلسفة المسطرة الجنائية وخلفيتها الفكرية، ثم ترجمة ذلك في مشروع متكامل قادر على المساهمة في التصدي للجريمة، وفي نفس الوقت ضامن لحقوق اطراف المحاكمة . وإن هذه الغاية هي التي انتهت اليها كل المرجعيات وخاصة:
- دستور 2011 والخطب الملكية المتواترة حول العدالة
- توصيات هيئة الانصاف والمصالحة
- توصيات ميثاق اصلاح منظومة العدالة
- مذكرة المجلس الوطني لحقوق الانسان المقدمة إلى وزارة العدل والحريات بتاريخ 28 غشت 2014
- المرجعيات الحقوقية المعتمدة، وخاصة المادة 14 من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية.
- المبادئ التوجيهية بشأن دور اعضاء النيابة العامة كما اعتمدها مؤتمر الامم المتحدة الثامن لمنع الجريمة ومعاملة المجرمين المنعقد في هافانا بتاريخ 27 غشت 1990
- مبادئ اساسية بشأن دور المحامين التي اعتمدها مؤتمر الأمم المتحدة لمنع الجريمة ومعاملة المجرمين المنعقد في هافانا في 1990
- الملاحظات الاممية الموجهة إلى المغرب في موضوع المسطرة الجنائية من طرف هيئات المعاهدات وخاصة:
- اللجنة المعنية بحقوق الإنسان في 1 دجنبر 2004
- لجنة مناهضة التعذيب في 21 شتنبر 2011
- لجنة حقوق الطفل في17 مارس 2006
- التوصيات الموجهة إلى المغرب في إطار الاستعراض الدوري الشامل.
مع مراعاة وضع الشريك الذي يتمتع به المغرب مع كثير من الهيئات والمؤسسات الدولية ذات الصلة.
كل هذه المرجعيات المعيارية تدفع في اتجاه اصلاح شامل وعميق للمسطرة الجنائية وتجاوز النموذج المعمول به الذي اصبح غير ملائم لوضع المغرب سياسيا وحقوقيا بالنظر إلى ما راكمه المغرب على هذه المستويات.