كتاب الرأي/مشاهد بريس
من يمعن التفكير والتمحيص في الشعارات واليافطات التي رفعت ورددت في المسيرات الاحتجاجية التي شهدتها عدد من المدن المغربية زوال يوم أمس الأحد، يلاحظ، بما لا يدع مجالا للشك، بأن المطالب السياسية والخلفيات الايدولوجية كانت حاضرة بقوة أكثر من الشعارات الرافضة لإجبارية اللقاح ضد الوباء القاتل.
كما أن المتتبع لدينامية الاحتجاج بالمغرب لا يحتاج لكثير من النباهة والفراسة ليدرك بأن خلفية الخروج نحو الشارع العام اليوم، لم يكن بدافع النزوعات الرافضة لإجبارية التلقيح أو المناوئة لعملية التطعيم في حد ذاتها. فالمغرب نجح في توفير التلقيح بالمجان لجميع مواطنيه، وشرع في تعميم الجرعة الثالثة، وهي مسألة تضع المغرب في طليعة دول العالم في هذا المجال، بخلاف الجار “البيترونفطي” الذي لا زال يتوجس من الانتكاسة الرابعة للوباء، في وقت وصل فيه المغرب للتفكير في الجرعة الرابعة للتلقيح.
ومن الناحية العملية، وبعيدا عن المناكفات السياسوية، أكدت وزارة الصحة واللجنة العلمية بأن التلقيح وجواز التلقيح لا يطرحان إشكالات كبرى على المستوى الصحي والاجتماعي، بالنظر إلى أن الغالبية العظمى من المغاربة حصلوا على التلقيح مجانا ويحملون جواز التلقيح بدون أية أعراض خطيرة على الصحة العامة. أكثر من ذلك، فإن الادلاء بجواز التلقيح سوف يخلق انفراجا كبيرا على المستوى الاقتصادي والاجتماعي، لأن الحياة ستعود لمجراها الاعتيادي، وستعود معها الدورة الاقتصادية للحركة سواء المهيكلة منها أو غير المهيكلة التي يعيش منها جزء كبير من الفئات الاجتماعية الهشة والفقيرة.
فلماذا إذن الاحتجاج على التلقيح وإجبارية جواز التلقيح بالمغرب؟ مع العلم بأن مختلف دول العالم، إن لم تكن كلها، تعتبر بأن التلقيح هو الحل الوحيد لمجابهة الجائحة الصحية، وأن العالم بأسره تقريبا اعتمد جواز التلقيح لتقنين حركية التنقل ومنع تفشي الوباء، ورغم أن المغرب حقق نجاحات مبهرة في مجال توفير التلقيح بالمجان بشهادة منظمة الصحة العالمية.
من يتحرى الجواب على هذه الأسئلة عليه أن يطالع أولا التدوينات والدعوات المنشورة طيلة الأيام المنصرمة، والتي كانت تدعو لتنظيم وقفات احتجاجية في مختلف المدن المغربية بدعوى “الانتفاضة” ضد التلقيح وجوازه. فأول شيء يعثر عليه القارئ في المنصات التواصلية هو “حملات التجييش ضد الحكومة والسلطات العمومية”، التي من المفروض أنها نجحت في معادلة التلقيح بحسب منظمة الصحة العالمية وبحسب شهادات الدول المتقدمة. الشيء الثاني الذي يعاينه المتتبع هو ” تلكم المسحة الدينية لدعوات التحريض على السلطات العامة”، فالعديد من الحسابات والصفحات الفايسبوكية كانت تتوسم في مسيرات الأحد أن تكون بمثابة “غزوة للقضاء على الحكم الجبري تمهيدا للحكم على منهاج النبوة”.
وفي تعليق على هذا الموضوع، أوضح مصدر أمني مطلع بأن “اليقظة المعلوماتية على شبكة الأنترنت رصدت، خلال الأيام الفارطة، تواتر العديد من الدعوات التحريضية التي تؤلب المشاركين على قوات حفظ النظام، وتشرح لهم طريقة التظاهر بالإغماء، وكيفية استفزاز رجال الأمن وتوثيق ردات فعلهم. بل إن بعض المنتديات على تطبيق واتساب كانت تطالب المحتجين باصطحاب أبنائهم القاصرين ووالديهم الشيوخ لاستعمالهم كدروع بشرية لمنع أي تدخل أمني”.
وفي سياق متصل، يضيف ذات المصدر، بأن مصالح الأمن رصدت العديد من التغريدات المنشورة من حسابات محدثة مؤخرا، والصادرة من خارج المغرب، والتي حاولت الترويج لسيناريو شبيه بالسيناريو السوري الموسوم بالفوضى والاضطراب المجتمعي، في محاولة للانسياق ببعض المحتجين إلى ارتكاب أعمال شغب على هامش هذه الحركات الاحتجاجية.
وشدد ذات المصدر، بأن المصالح الأمنية أدركت خلفيات ومرامي هذا النوع من التدوين التحريضي، وقامت بتحسيس منتسبيها بضرورة التحلي بأعلى درجات ضبط النفس وعدم الانسياق وراء الاستفزازات، كما عقدت عدة اجتماعات تنسيقية لتقييم المخاطر والتهديدات المرتبطة بالمحافظة على النظام العام. وقد نجحت في تدبير أكثر من 16 شكلا احتجاجيا عرفته المدن المغربية زوال اليوم الأحد، بدون تسجيل أية مواجهات عنيفة أو ركون للاستخدام المشروع للقوة، باستثناء بعض المناوشات الطفيفة المسجلة رغم حجم الاستفزازات التي تعرض لها نساء ورجال القوة العمومية، والتي وصلت حد الإهانة والرشق بقنينات الماء وحيازة أحد المتجمهرين للسلاح الأبيض بمدينة الدار البيضاء.
وبموازاة مع كل ذلك، طرح العديد من نشطاء المنصات والشبكات التواصلية سؤالا عريضا ومفصليا مؤداه: لماذا لم تسلك نبيلة منيب ومحمد زيان وعبد الرزاق بوغنبور وعبد الحميد أمين وغيرهم مسطرة التصريح القانوني لإضفاء الطابع الشرعي على هذه الأشكال الاحتجاجية؟ ولماذا لا يمارسون هذه الحرية في إطار القانون لقطع الطريق على من يراهن على الفوضى وتنزيل السيناريو السوري بالمغرب؟ لكن للأسف الشديد، كل التعليقات التي حملت الأجوبة الفايسبوكية على هذه الأسئلة، أجمعت على أن الكثير من المشاركين في هذه الاحتجاجات لا يرغبون في تحمل المسؤولية الناجمة عن التصريح، إن هي اندلعت أعمال الشغب غير متوقعة، ولذلك فهم يراهنون على المشاركة أو الركوب على هذه الاحتجاجات غير المصرح بها لتحقيق أهداف ومقاصد سياسية لا تكون بالضرورة هي تلك المعلن عنها في الشعارات المرفوعة.