مشاهد بريس
ليس في الأمر ما يُبسط وما يدعو إلى البهحة.. ساعات قليلة فرح بها المغاربة بفوز منتخب المحليين بكأس “الشان” بالكاميرون في مباراة “ملحمية”، حتى استيقظنا على “ملحمة” حقيقية بمدينة طنجة التي انبعثت منها روائح موت جماعي.. أكثر من 28 جثة صدقت عليهم مقولة “ضربهم الضو وهزهم الما“!!
داخل نفق أرضي لإحدى الفيلات الفاخرة المكيفة، حُشرت طبقة عاملة لا ترى النور مثل حيوانات “الخُلْد” الخالدة في الظلام، لا تملك عيونا لترى، بل أظافر لتحفر بها بحثا عن “ديدان” الأرض.. حيوان الخُلد الذي يقشّر الأرض كي يعيش، هاربٌ من الضّوء، وعدوّ النّور، سريرُه التّراب، وغذاؤُه حشرات وديدان معويّة.
لهذا لا يرى الإنسان الخُلد ولكن نرى أنفاقه العميقة وسراديبه السرية.
حتى في عالم البشر هناك من يشبهون “الخُلد”. “الباطنيّون”، ليس المقصود “الحشّاشين”، تلك الطائفة المارقة التي كانت تسرق الأرواح بزعامة حسن الصبّاح الذي قاد أول عصابة منظمة متخصصة في الاغتيالات في العصر الوسيط ببلاد فارس.
الحديث عن العمال “الكادحين” الذين يشتغلون في “باطن” الأرض، داخل الأقبية، وتحت المنازل، في معامل عشوائية، لا تدخل إليها الشمس، جدران من الإسمنت السّميك الكاتم للصوت، بلا نوافذ، ولا منافذ هواء.. هناك فقط جدران وأجساد تتصبّب عرقا من فرط الرطوبة، وهدير آلات، وأصوات مبحوحة، ووجوه محنّطة، وعيون غائرة تبحث عن خبز مرّ.
انتشر الخبر كالنار في الهشيم.. موت جماعي لعمال “سريين” بطنجة قضوا نحبهم صعقا بسبب تماسّ كهربائي بعد الأمطار الطوفانية التي عاشتها المدينة “العالية” ليلا.
المعمل “العشوئي” الذي لا يشتغل إلا بالكهرباء تحت سقف التراب، غمرته المياه التي لم تكن تحمل أمطار “الخير” لعماله، بل “صكوك” إعدامهم، ليخرجوا جثثا انْتُزِعَتْ منها أرواحها.
من هو “ربّ” هذا المعمل “العشوائي” الذي وقّع على “صكوك” الإعدام الجماعي”؟ ربّما هو مالك الفيلا، في الوقت الذي كان يتقلّب يمينا وشمالا في سريره المخمليّ، يحلم في خدر جميل بحوريات الجنة، كان لا يدري أنّ فراشه ينام فوق فوهة “جهنّم“!!
بئس هذا المصير وهذا المشهد: عالمان موازيان..
عالم رخامي ومخمليّ فوق التراب، وعالم رمادي وطاعن في القساوة تحت التراب.
عالمان يتقاسمان رقعة واحدة، لكن بسقفين متناقضين.. سقف يعانق السماء، وسقف يعانق التراب!!
محرقة طنجة تشبه في بغض تفاصيلها للفيلم السينمائي الكوري “بارازيت” أو “طفيلي” الذي حصد العديد من الجوائز عام 2019، من بينها أربع جوائز رئيسة في حفل توزيع جوائز الأوسكار الثاني والتسعين، وهي: أفضل فيلم وأفضل مخرج وأفضل كتابة (سيناريو أصلي) وأفضل فيلم بلغة أجنبية.
يُظهر الفيلم منزل أسرة الثرية كتحفة معمارية تتربّع عالياً فوق أحياء سيول الفقيرة، مع إطلالةٍ بديعة تتضمّن مساحات خضراء فاخرة، يُمثِّل هذا المنزل الفاره كل شيءٍ يختلف عن منزل كي-وو الكئيب: فهو أنيق ومعزول عن العامة والضوضاء، وبداخله حياة تختلف عن حياة كيم تماماً.
فيلم ضاجّ بالسّواد وكوميديا ساخرة من الفوارق الطبقية، وعوالم متقاطعة، ومجتمع دموي عملته الكذب والخداع.
من شاهد فيلم “بارازيت” سيتخيل شريط صوره وهو يعيد تركيب سيناريو مقاطع فاجعة المعمل العشوائي الذي دفن فيه عماله، فاجعة من قساوة واقع مغربي، يقبل فيه مواطنون العمل في ظروف حاطّة بالكرامة.. يتحوّلون إلى “خُلْد” ينبش التراب ويقشّر وجه الأرض من أجل البحث عن كسرة خبز مرّ!!
ياترى من سيحاسب المتورطون …. ومن المتورطون في هاته الفضيحة…..