عيسی هبولة
بصفته فنان شعبي وممارس لفن العيطة، وعازف علی الة الكمان، ومغني ل “رباعة الشيخات”، كتب الفنان “الحسين السطاتي مقالة تحت عنوان (الشيخة تلك الريم شيخة الحريم)، مبرزا للباحثين والمهتمين تعريفه الخاص وانطباعه الشخصي عن “الشيخة” قاٸلا:
إن كلمة “الشيخة” في قاموس معاني الأسماء باللغة العربية تم شرحها على أنه اسم علم يطلق على المولود الأنثى، وينحدر أصل الاسم من أصول عربية، ومعنى اسم “شيخة” هو السيدة التي بدت عليها علامات كِبر السن، وظهر عليها الشعر الأبيض، والشيخة في دول الخليج لقب يطلق على الأميرات.
والجدير بالذكر أن معنى اسم شيخة تم تفصيله في معجم المعاني الجامع على أنه اسم جمعه شيوخ وأشياخ، واسم شيخة هو الاسم المؤنث من شيخ، أي من شاخ وكبر في العمر، ومن الكلمات العربية ذات صلة باسم شيخة هي: تشايُخ، وتشييخ، وشيخوخة وشُيَاخ، وشاخ وشياخة ومشيخة ومُشيًخ… .
أما الشيخة المغربية فهي تلك الفنانة المغنية والراقصة الشعبية “النغتة”، حسب لغة أهل الحرفة، الفنانة الموهوبة التي عشقت حرفة “الشيخة” وأحبت فن العيطة، وتعلمت أصولها وفصولها، فأحبتها وامتهنتها لكنها تكره أن يقال لها أو عنها “شيخة”، وهي تلك المغنية التي تغني وترقص وفي قلبها خيمة عزاء، تبتسم وتضحك وتتصنع الغباء، وقلبها مثخن بالجراح والشقاء، وهي ظاهرة عصية على الفهم، حار في أمرها دارسو علم الأنتروبولوجيا والأنتروميزيكولوجيا، وحيرت العديد من الباحثين والمتطرفين المتشددين الأشداء، كما أحرجت الفقهاء والعلماء…
الشيخة هي مخلوقة هلامية، كل مرة تكون في صفة..غير قابلة للانقراض، فهي تختفي وتعود لتظهر من جديد، خفاشية العيش تنشط بالليل وتستريح بالنهار.
الشيخة هي ذلك الجسد المرمري المربرب الثائر المتمرد الذي يُرهب الرجال قبل النساء، الجسد المتحرر من كل النواميس، والذي يُعذب الذكور ويقهر الإناث، هي تلك المرأة الجريئة الوقحة والخطيرة… التي تركت الاحتشام ولبست ثوب الابتذال، ينظرون إليها نظرة دونية وينعتونها بصفات قدحية، الكل يرشقونها بسهام أعينهم، ويرجمونها بألسنتهم..لكن لا يريدونها أن تموت، يرغبون أن يتركونها حية تتعذب، يستمعون إليها ويستمتعون بها متى أرادوا ذلك..وهي أنثى محبوبة بالليل ومنبوذة بالنهار.
الشيخة في نظر الرجال مغنية وغانية غاوية؛ قوادة ومومس، مؤنسة وموسوسة، لا يريدونها أن تصاحب أو تصادق نسائهم وبناتهم أو تصاحب أبناءهم.. في نظر النساء فنانة فتانة، ساقطة لاقطة، وناشطة نشيطة، خاطفة رجال وبائعة هوى، لا يردنها أن تصاحب أو تصادق رجالهن أو أبنائهن وبناتهن.
لكن في الحفلة وفي ليلة العرس تجدهم خلال السهر والسمر يجتمعون ويتجمعون حولها فاغري الأفواه، يتخاطفون فيها، هذا يريد لمسها، وآخر يريد لثمها وتقبيلها وعناقها أمام الملأ ويرسل لها قبلات على الهواء، وذاك يسأل عن العنوان ورقم الهاتف، وآخر يريدها له لوحده.. حيث بدونها لا تكتمل فرحتهم وفرجتهم، تغني وترقص لهم، تُفرحهم وتصنع فرجتهم، تُسعدهم وتساعدهم وهم يؤلمونها ويجرحونها ويحزنونها، تُضحكهم وهم يضحكون عليها ويبكونها، هي تلك المرأة الهاربة من النار إلى الجمر.. تغني وهي تصيح ثغاء العنزة المربوطة وترقص رقص الطير المذبوح.
عزيزي الباحث والمهتم بالشيخة، لا تخف عن مصير هذه المخلوقة، فرغم أنه لا يمكن تكوينها في مقاعد الدراسة، أو بالجامعات أو بالمعاهد الموسيقية ولا بمراكز التكوين، فقد تلقت تكوينا عميقا في مدرسة الحياة، فهي خليط متجانس معقد، اجتمع فيه القهر والتعذيب والبؤس والشقاء والحرمان، والاستعباد..إضافة إلى موهبة الفن الغنائي العيطي، لأن الشيخة هي عصارة لمجتمع ذكوري نرجسي متغطرس، متخلف، دكتاتوري، ينشد الطهارة ويبتغي العفة.. قوم يدعون الطهرانية وهم أكثر نذالة وعهر، يزعمون أنهم يحمون الفضيلة وهم مصدر الرذيلة. وكأن غير الشيخة من الرجال والنساء ملائكة.
الشيخة هي تلك المرأة البدوية الأصل، المهمشة الموطن، صنيع دكتاتورية ذكورية وعنف جماعي: الأب، والأخ، والعم، والخال، والصديق والعدو والحبيبوالزوج و… ضحية اغتصاب يومي مقنن من طرف زوج في سن جدها ارتضته صاغرة مرغمة، وفُرض عليها بدعوى العادات والتقاليد، فتحدت الكل وهربت تتستر بالعيط و تحتمي بالفن تغني وترقص على جراحها.
الشيخة في نظرهم هي تلك الأفعى السامة المخيفة والقاتلة، التي تزرع الرعب من حولها أينما حلت، كلهم يعجبهم مظهرها، شكلها، وملمسها الناعم المخملي، تسحرهم إلتواءاتها وانثناءاتها، وصوت فحيحها وزغرودتها، يتفرجون فيها لكن لا أحد يريدها أن تكون في داره أو في فراشه، لا يرغبون أن تكون منهم أو إليهم.
الشيخة هي ذلك الجسد الثائر المتمرد الذي تحدى التقاليد والأعراف، وتخلى عن المبادئ، هي تلك الأرداف الممتلئة المكتنزة الراقصة والمتراقصة، والبطن المهتز المتلولب، والنهد الضرعي النافر المتزلزل والمزلزل، والوجه المجمل المختفي وراء أصباغ واهية.
الشيخة هي تلك الحمامة البيضاء التي تنشد الفرح والحب والسلام، فإذا ما هدلت لا يعرفون أغنت تلك الحمامة أم بكت، وهي تلك القطة الجميلة التي كانت وديعة، وبكثرة ما عذبت وتألمت صارت نمرة متمردة مكشرة، هي تلك اللبوءة الشرسة التي تستأسد في غابتها بزئيرها وقوتها، حيث يفر منها الذكور بعدما تكون قد استولت على ما بحوزتهم من طرائد.
الشيخة هي تلك الفرس الجامح الباحث عن فارس لاجم، داخل المحرك “الحفلة”، تصهل صهيلا متواصلا، قبل أن تنطلق راكضة في الأرجاء، “تتشيخ”، وتنظر بقوة في أعين اللاهثين وترميهم بنظرات ازدراء وتحدي، تتركهم قتلى لجموحها وقسوتها، تستهزئ بهم وتتجاهل تواجدهم، فتنطلق راقصة وهي ترفع رأسها في شموخ. تتنقل وسط الغرباء تلفت انتباههم تغني وترقص، تُبدع فتُقنع وتمتع، وتشد اهتمامهم، وتفضح بجرأتها رغباتهم الدفينة المكبوتة.
عزيزي الباحث المهتم بفن الشيخات، إن شيخة الأمس كانت “قائدة” تتحدى أهلها والمجتمع ليعلو صوتها شدوا، وهي شاعرة منشدة قبل أن تكون راقصة، هي الصوت الذي كان يستأجره الرجل؛ الضعيف، والمظلوم..ليحتج على كل ذي سلطان، وكانت هي صحافة الاحتجاج، قبل أن تكون مجرد شكل جميل يرقص.
لا تخف على الشيخة من الانقراض والزوال، لأنني شيخ “كوانجي” ل”رباعة الشيخات”، وأعرفهن جيدا…فكلما عرفت شيئا عنهن، أعرف أنني أميا ولا أعرف إلا القليل في عالمهن، إنني أتلقى العديد من العروض، وطلبات عمل كثيرة من نساء أغلبهن بدويات الأصل، يُردن ولوج عالم “تشياخيت”، هذا من جهة، ومن جهة أخرى لأننا مجتمع ننتج الشيخات ونصنعهن بدكتاتوريتنا الذكورية، وقد نصدرهن إلى الخارج لكثرتهن وجودتهن وجمالهن، لا تخف عزيزي الباحث، مادام هناك تعذيب جسدي ونفسي للمرأة البدوية الريفية، وتعنيفها، وعدم استقلالها ماديا، وحرمانها من التعليم والعمل، وإرغامها على الزواج قهرا، واحتقارها، وقمع لحريتها واختياراتها.
عزيزي الباحث والمهتم، ( المتفتح، المنفتح، المثقف، والحداثي…)، الذي يهمه أمر الشيخة، أقول لك لا تخف عليها، ولا تلمع وتزين صورتها، شكرا لك، لأن الشيخة لا تحتاج إلى من يزين صورتها ويضع لها “المكياج”، لأنها هي المرأة الوحيدة في العالم التي تجمل صورتها وتزين وجهها وتضع “مكياجها” وهي محاطة بعشرات بل بمآت الرجال في الحفلة، فبعدما تنتهي من شطحاتها ودحرجاتها وشقلباتها وسطهم، تحمل حقيبتها وتجلس على كتف أحدهم وتمرر أحمر الشفاه على شفتيها بتمهل، وهم فاغري الأفواه مشدوهين بجرأتها…تبصق على من لمسها، وتتفل على من حاول مضايقتها، فتخطف سيجارة من فم أحدهم، تمجها في تلذذ وانتشاء، وتنفث دخانها في وجوههم، وتنثر ثفيفها على رأس آخر، وتركل الثالث وهم ينتشون بإهانتها لهم، هي المرأة التي أهانها رجل فأهانت كل الرجال.
عزيزي الباحث والمهتم بسيرة هذه المخلوقة، الشيخة هي أخت لا تشبه الأخوات، أخت قد تكون تقمصت دور الأب والأم بعد موتهما، أو بسبب فقرهما أو مرضهما، فتكلفت بالنفقة على أخوتها وأخواتها، وتكفلت بهم وهم صغار، تغني وترقص بالليل، وتراقب وتسير وتربي وتصرف بالنهار.. ضحت من أجلهم على حساب كرامتها وكبريائها، لم تتركهم يحتاجون لشيء، وفرت لهم كل ما يحتاجونه، سهرت على تربيتهم وتعليمهم وتدريسهم، حتى كبروا وتكونوا واشتدت سواعدهم، وعملوا وتوظفوا ذكورا وإناثا، وزوجتهم، وفرحت أكثر من فرحتهم، ورقصت في أعراسهم وبقيت هي بلا عرس ولا عريس.. وظلت تراقبهم من بعيد، ولما كبرت وسئمت الحياة قصدتهم تنشد الدفء والحنان فخيبوا ظنها وحطموا آمالها، فلما احتاجتهم تنكروا لها وأنكروا خيرها وجميلها، وصارت تضايقهم زيارتها لهم، فهم لا يريدون أن يعرف أصهارهم أن أختهم شيخة،
طبعا لا يشرفهم لا هم ولا أبناءهم أن يقال لهم أختهم شيخة.
الشيخة يا عزيزي، هي أم ليست كالأمهات، تعشق الأمومة وتخاف منها، تحمل أعباء الزوج والأبناء بشقاء، تعطي بسخاء وتأخذ بجفاء..هي تلك الأم التي ترقص على أحزانها وتغني على حظها العاثر، هي الأم التي تريد أن تخبر العالم كله أنها امرأة صالحة لها بيت، وزوج، وأبناء..لكن أبناءها لا يريدون أن يعرف العالم أنهم أبناء شيخة أو يقال لهم أو عنهم “أولاد الشيخة”، ولا حتى زوجها فهو يخجل أن يقال له “راجل الشيخة”.. الأبناء والزوج يحبونها داخل البيت ويعانقونها، ويخجلون من المشي إلى جانبها بالشارع..يريدونها كبقرة حلوب فقط لا كأم تربطها بهم علاقة وجدانية.
الشيخة هي تلك المرأة المتزوجة التي يسهل طلاقها، ولا يجد طليقها صعوبة في إسقاط حضانتها لأبنائها، وحرمانها منهم، بكل سهولة لأن الكل سيشهد له بأنها شيخة، بائعة غناء وهوى، تصلح للرقص والغناء ولا تصلح لتربية الأبناء، في نظرهم هي أنثى لعوب لا تُربي بل تُفسد، ولا تبني بل تهدم.
عزيزي المهتم والباحث، فأنا شيخ كومنجي ل”رباعة الشيخات”، أعرف جيدا هذه المرأة، فهي تلك الأنثى القوية التي تسكنها أضعف طفلة، وهي المتمردة التي تقدم الحب للجميع وهي في أشد الحاجة إليه..هي من يظنونها متكبرة ومتعالية لكنها طيبة ومتواضعة، هي الصديقة الوفية التي تظهر على حقيقتها من أول لقاء، فهي في قمة الذكاء لكنها تتغابى مع من تحب، هي الأكثر ألما لكنها تترجم ألمها إلى ابتسامة ساحرة تسحر الجميع، هي تلك المتواضعة التي تملك أكبر كبرياء وأقوى ثقة بنفسها، هي تلك الأميرة التي تحسدنها الملكات على حريتها وثقتها في نفسها، هي من تعطي بدون مقابل لمن تحب ولا تريد كسر الخواطر، هي من تحتاج لعقل يفهمها ولقلب يحبها، هي تلك الصديقة الحنونة الصادقة..إن هذه المخلوقة المظلومة، والمدانة ظلما قبل أن تكون متهمة، إذا أحبت أعطت كل شيء قلبا وقالبا، بدون تصنع ولا نفاق، ولا مواربة.. تضحي بالغالي والنفيس من أجل المحبوب، لكنها عندما تحس بالغدر والخيانة فهي تعذب بسادية ووحشية؛ تدبح وتسلخ وتُقطِع ثم تقلي في الزيت.
وأخيرا عزيزي المهتم والباحث، الشيخة لا تخاف الموت، لأنهم قتلوا فيها الأنثى، قتلوا فيها الجمال، حطموا فيها كل ما هو جميل، فهي ميتة حسيا، قتلوها بقذائف نظراتهم ورصاص كلامهم، ووقاحة أفعالهم..هي المرأة التي أصبح الموت أملها الوحيد رغم أن قلبها متعطش للحياة، فأضحت هذه الحياة بالنسبة لها جحيما دائما قتلت ما في جوفها من أمل وأصبحت لها أمل، فهي لا تخاف من الفضيحة بل تحترفها، تخاف من الخالق ولا تبالي بالمخلوق، ولا تخاف من أحد ولا تهاب السجن، لأنها بكل بساطة، أصلا تعيش بيننا في سجن مفتوح.
الشيخة هي تلك المرأة التي تصرخ وتستنجد وتنادي وتعيط ولا من يبالي لحالها، يستمعون ويستمتعون بعيطتها، ولا من يسمع عياطها، فتعتمد على خالقها وعلى نفسها، هي فعلا تلك الأسطورة، فهي أروع النساء، وهي تلك الريم شيخة الحريم.